19‏/06‏/2016

في المرافقة التربوية (1)

المرافقة ... من المفهوم إلى الممارسة
كان من مهام المربي قديما، في العصور اليونانية، مرافقة الأطفال من العائلات الارستقراطية وملازمتهم أثناء مسير الطريق لإيصالهم إلى معلميهم لتدريبهم على المواطنة. وكان يتناقش معهم في كل مرة أثناء اجتياز الطريق، ويتحدث إليهم حول ما اكتسبوه. لقد كان وسيطا بين هذه العائلات والأماكن العمومية التي يرتادها الأطفال آنذاك. ولعله من الثابت أن هذا المرافق لم يكن يطلب منه سوى المشي جنبا لجنب مع الطفل لتأمين الطريق والوصول به في الوقت المحدد. إلا أن هذه المسؤولية -على بساطتها - جعلت من هذا العبد "المرافق" شخصية هامة وجعلت من مهمته دورا سيكون ذا شأن في أدبيات النظريات التربوية الحديثة. فكيف تطورت هذه الممارسة، وما هي قيمتها وموقعها في العلوم الإنسانية والتربوية تحديدا؟ ما أهمية اعتمادها في اوساط التنشيط التربوي الاجتماعي؟
مع ولادة العلوم الإنسانية ، ظهر اهتمام متزايد وتطور سريع في النظريات التربوية فنتج عن ذلك تطور في الفكر البيداغوجي الذي جعل من الدور النشيط للذات المتعلمة مدار اهتمامها. وغني عن البيان أن هذا التطور لم يكن بالضرورة تجاوزا أو قطيعة مع العصور القديمة بل كان استيعابا لها على أساس تجديد المفاهيم وتنظيمها وفق أنساق ومنهجيات تعرف بالبراديغم . وقد دلت أشغال PAUL (*) في 2004 أن مفهوم المرافقة شق التاريخ الإنساني محافظا على مبادئ تعريفه الحديث، وقد ظل هذا المفهوم شاملاGénérique، رغم استعماله في عديد السياقات والمجالات كالتعليم والتكوين والمساعدة والإرشاد وحتى الحكم، ولم يؤثر تغير شكله Protéiforme على جوهر مفهومه.
إن المفهوم الأولي والقاعدي للمرافقة يعني السير معا في اتجاه محدد وفق قيمة رمزية تمثل في التقاسم le partage. وهذه القيمة تدحض أولية وأسبقية المرافق primauté بل تجعله ثانويا أمام الشخص المرافق، إضافة إلى اعتبار أن أبعاد العلاقة في هذه العملية أهم من أبعادها الإجرائية. وعليه، فإن المرافقة لا تقوم أساسا على هدف محدد بغية الوصول إليه ولكن على مبدأ هدي المرافق وإرشاده ودله لتحقيق ذلك بنفسه[1]
وحديثا، تتموضع المرافقة في ملتقى عديد المقاربات والنظريات التربوية والعلاجية والنفسية والتواصلية من ذلك التيار النفسي الإنساني بقيادة كارل روجرس ونظرية التفاوض عند Fisher Uryونظرية التواصل عند Gregory Bateson ومنظومة مدرسة PALO ALTO إضافة إلى باحثين آخرين من أمثال Vigotsky و Feurstein.
لقد تطورت المرافقة عند روجرس من الحقل النفسي العلاجي إلى المجال التربوي فهو الذي اعتبر أن دور المرافق هو تحويل القدرات الداخلية للفرد من القوة إلى الفعل انطلاقا من مسلمة مفادها أن كل شخص قادر على التغيير مهما كان عمره أو معيقاته. ففي حديثه عن المرافق (المساعد)، أكد روجرس أنه ذلك الذي يحسن اعتماد قدراته الإبداعية بتلقائية في مساعدة لآخر ليكون قادرا على مواجهة الحياة بنفسه. و هي مساعدة تقوم على علاقة تفاؤل لا مشروطة وثقة في الفرد وفي قدراته المتنامية. و تبعه Feurstein في نفس الاتجاه فدعا المربين إلى استثمار ما يمكن أن يفعله الطفل ويقدر عليه، والتخلي - كما هو شائع في الأوساط التربوية - على ما لا يمكن أن يفعله. هذا وتقر المقاربة السوسيوبنائية أن المعارف تبنى من الداخل وأن التعلمات تأتي من المنحى الاجتماعي ، وعلى المربي "وسيطا أو مرافقا" إيقاظ هذا الداخل في المربى وإرشاده إلى التفاعل مع هذه المعارف بطريقته. سقراط أيضا يعتبر "المولد" هو من له القدرة على مساعدة المتعلم في إخراج معارفه من ذاته مع يقينه أنه ليس هو منشئ تلك المعارف. ولنا في ذلك أحسن مثال في تجربة مساءلة سقراط لأحد العبيد بحضور مينون Ménon والتي انتهت بأن أجوبة هذا العبد (على كونه جاهلا) ترجع إليه حقا.
من جهة أخرى انتقلت المرافقة إلى أوساط العمل الاجتماعي حتى أن بعض الدول فرضتها ونصت على ضرورتها في التشريعات كقانون ، لا سيما مع الأشخاص من ذوي الإعاقات الخاصة والأشخاص الطاعنين في السن، لتبقى هذه الممارسة تختلف من ثقافة لأخرى ، بحسب ما يوليه كل مجتمع لغايات نظامه التربوي ومقاصد برامجه وأنشطته.
هذا و - في اعتقادنا – لا تعتبر المرافقة في أوساط التنشيط التربوي الاجتماعي بتونس منتشرة ومعتمدة بشكل رسمي ونحن نصنف تعامل العاملين والمشرفين على هذا الحقل مع المرافقة كالتالي:
-
توجد قلة – حسب تقديرنا – تحسن ممارستها وتدعو وتساهم في نشرها كضرورة ميدانية تساهم في مجابهة صعوبات الشباب والمربين. وقد تكون هذه الفئة متأثرة بتكوين شخصي ويحمل أفرادها حماسة التغيير والتجديد ومتابعة مستجدات علوم التربية والبيداغوجيا.
-
ثمة قلة اخرى ممارسة للمرافقة أيضا ولكن دون وعي كبير منها ، وذلك لافتقادها المرتكزات النظرية والبيداغوجية وهي بذلك تعتبر محاولات شخصية لا ترتقي لأن تكون عملية منظمة ومؤسس لها.
-
توجد فئة - نقدر انها اغلبية - غير عاملة بمبادئ للمرافقة لعدم الإلمام بأديباتها واختزال مفهومها في الإرشاد والتفقدخاصة كلما تقابلت أو اصطدمت بعمليات الإسناد وممارسات التفقد الرسمية.
وبناء على ما تقدم من التحليل، تظهر المرافقة كمفهوم وممارسة قديمين تتشكل حسب سياق الاستخدام ولكن دون الحياد عن جوهرها الذي ظل ثابتا رغم تحديثه. ولعل أهم ما يجلب انتباهنا أن المرافقة لا تبدو مهمة بيداغوجية محضة بل تتعداها لتحمل معنى البناء- Bulding - وهي الفكرة التي اضافها هيغل على إثر اطلاعه على مؤلف روسو "اميل" مقرا أن هذا النشاط يجب أن يكون مساعدا على ظهور إمكانات معينة في الطبيعة البشرية وانضاجها ، وهذا التحقيق يمثل أساسا نشاط الحرية... أليست الحرية عند ميل S. Millتحقيق الفرد لإمكانياته ؟
بهذا المعنى إننا نرى أن أي تغيير يحصل في المؤسسات أو المربين إنما يشترط الحرية التي تدعمها المرافقة، لا سيما أنه عندما 
يتعلق الامر بقضية التأثير في الإنسان (فردا أو جماعة) ، فإن التعامل معهم ينبغي أن ينطلق مما هم عليه والعمل على جعلهم يتطورون وفق حركات وعيهم الخاصة والذاتية – وهنا تكمن حيلة وأهمية "العقل التربوي"، وتبدو أهمية المرافقة والوساطة كبديلين لنفوذ البيداغوجيا
المصدر
M.PAUL (2004) l’accompagnement, une posture professionnelle spécifique, Paris : l’Harmattan


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق